المنطق الضبابي ليس ضبابياً
"المنطق الضبابي ليس ضبابياً" "Fuzzy logic is not fuzzy".
هذا ما استهلّ به العالم زادة ورقته البحثية التي نشرها عام 2008 بعنوان (هل هناك حاجة للمنطق الضبابي؟) [2]، والتي نشرها ردّاً على هجوم العديد من الرياضيين وغيرهم على المنطق الضبابي الذي قام بالتأسيس له عام 1965 [1]، حيث يعتقد الكثيرون أنّه منطق مشوّش وغير دقيق، وليست هناك أيّ فائدة فعليّة له..
لذا بدأ مقدّمة ردّه عليهم بهذه الجملة، موضحاً أنّ المنطق الضبابي ليس ضبابياً أو مشوّشاً بحدّ ذاته، وإنّما هو أداة دقيقة جدّاً للتعبير عن المفاهيم المشوّشة التي لم يكن بالإمكان التعبير عنها باستخدام المنطق التقليدي.. ولم يكتفِ بتوضيح ذلك، بل عرض العديد من التطبيقات التي استفادتْ من هذا المنطق لحلّ مشاكل واقعيّة..
رأينا في المقال السابق أسباب قصور المنطق التقليدي عن التعبير عن العديد من المفاهيم الحياتية بشكلٍ واقعيّ، وبيّنّا مدى ضرورة استخدام المنطق الضبابي الجديد، والذي هو أكثر مرونة في التعامل مع المفاهيم والمعلومات المشوّشة..
انطلق الأمر من وجود بعض المعلومات والمعطيات التي لا يمكن الحكم عليها بأن تكون إما "صحيحة" أو "خاطئة"، بل نحن بحاجة لخيارات أخرى.. وكما قلنا على سبيل المثال: معلومة أنّ "زيد طويل" ضبابية، إذ لا يمكننا الحكم على صحّتها أو خطئها بشكلٍ جازم لعدّة أسباب فصّلنا فيها في المقال السابق..
الآن، سنقوم بالتعامل مع هذه العبارة تبعاً للمنطق الجديد بطريقة مختلفة عمّا اعتدنا عليه..
اعتدنا مسبقاً أن نتعامل مع الأمر، وكأنّ هناك -مثلاً- مجموعة للنّاس "الطّوال"، ومجموعة للنّاس "القصار".. وكلّما جاءنا شخص نسبناه إلى إحدى المجموعتين.. فإذا كان طويلاً جعلناه في مجموعة "الطّوال"، وكذلك إذا كان قصيراً وضعناه في مجموعة "القصار"، وبالتالي هو لن يكون في مجموعة "الطّوال"..
وبما أنّ مفهوم "الطول"، كما أوضحنا من قبلُ، هو مفهوم ضبابيّ ومشوّش، فتصنيف النّاس بهذا الشّكل أمر غير واقعيّ.. لذا بدلاً من أن نتعامل مع المجموعات التقليدية التي اعتدنا عليها، سنتعامل مع نوع جديد يُدعى "المجموعات الضبابية" Fuzzy Sets..
فمثلاً، سنتعامل مع مجموعة "الناس الطّوال" بشكلٍ مختلف.. إذ سنجلب زيد، وحسب طوله سنقرّر "درجة انتمائه" لمجموعة "النّاس الطّوال".. وهذا يعني أنّه غالباً لن يكون منتمياً بالكلّيّة، ولن يكون غير منتمٍ أبداً، بل سيكون هناك خيار وسطيّ بينهما حسب طوله وحسب متوسّط أطوال الناس في منطقته مثلاً..
ولكنْ لو أتى أطول شخصٍ في العالم، وأردنا أن نحدّد درجة انتمائه للمجموعة، فسيكون منتمياً كلّيّاً.. وهذا ستكون درجة انتمائه لمجموعة "الناس الطّوال" مساوية للواحد (أي 100%).. بينما لن يكون أقصر شخصٍ في العالم منتمياً إلى المجموعة بأيّ حال من الأحوال، لذا ستكون درجة انتمائه لهذه المجموعة مساويةً للصفر.. وأيّ إنسان آخر غيرهما، ستكون درجة انتمائه للمجموعة هي قيمة ما بين الصفر والواحد.. وهكذا نكون قد حصلنا على مجموعة ضبابية..
كذلك مجموعة "الناس القِصار" هي مجموعة ضبابية، ويتمّ التعامل معها بنفس الطريقة تماماً..
هذا بالنسبة للمجموعات العامّة، ولكن ماذا عن المجموعات الرياضية؟ مثل مجموعة الأعداد الأكبر قليلاً من 5، أو مجموعة الأعداد التي تساوي تقريباً العدد 7؟ في الحقيقة، لن يختلف الأمر كثيراً..
أتذكر العدد الضبابي "تقريباً 7" الذي عبّرنا عنه على خطّ الأعداد في المقال السابق باستخدام الغيمة الضبابية المحيطة به، والتي تكون كثيفة جدّاً عند العدد 7 تماماً، وتتلاشى كلّما ابتعدنا عنه في كلي الاتّجاهين؟
اعتبر زادة كثافة الضّباب هي عدد بين الصّفر والواحد، بحيث تكون الكثافة عند العدد 7 مساوية لـِ 1، وتتناقص شيئاً فشيئاً كلّما ابتعدنا حتى تصل إلى الصّفر إذا ما ابتعدنا عن العدد 7 كثيراً..
يمكن النظر إلى هذا "العدد الضبابي" على أنّه عبارة عن مجموعة ضبابية، وليس عدداً كالأعداد التي اعتدنا على التعامل معها..
أي أنّ العدد "تقريباً 7" هو مجموعة جزئية من الأعداد الحقيقية تحوي كلّ الأعداد القريبة من العدد 7، ولكنّ هذه الأعداد لا تنتمي إلى تلك المجموعة بنفس الدّرجة؛ فالأعداد الأقرب من 7 تنتمي بشكلٍ أكبر إلى المجموعة.. بل إنّ درجة انتماء العدد تساوي كثافة الضباب عنده..
وهنا سيكون العدد 7 منتمياً إلى مجموعة الأعداد القريبة من 7 بدرجة تساوي الواحد، بينما العدد مليون ليس قريباً أبداً من 7، لذا ستكون درجة انتمائه لمجموعة الأعداد القريبة من 7 مساوية للصفر..
ماذا لو أخذنا العدد 8؟ إنّه قريب من العدد 7 نوعاً ما، لذا من الممكن أن تكون درجة انتمائه على سبيل المثال مساوية لـ0.8..
العدد 9 قريب من العدد 7 كذلك، ولكنّه أبعد من العدد 8، لذا ستكون درجة انتمائه لمجموعة الأعداد القريبة من 7 أقلّ، وقد تكون 0.7 مثلاً..
وهكذا، كلّما اقتربْنا ازدادت درجة العضوية، وقلّت كلّما ابتعدنا..
ولكن كيف يمكن التعبير عن الأمر رياضياً؟ كيف أربط بين العدد ودرجة انتمائه إلى مجموعة ما؟
عبّر زادة [1] عن أعداد مثل "تقريباً 7" من خلال دالّة \(\mu\) ، منطلقها هو مجموعة الأعداد الحقيقيّة \(\mathbb{R}\) ، ومستقرّها هو الفترة المغلقة [0,1]..
\(\mu : \mathbb{R} \rightarrow [0,1]\)
وهكذا، تربط هذه الدالّة كل عدد حقيقي على خطّ الأعداد بعدد بين الصّفر والواحد يدلّ على مدى قربه من العدد 7..
فمثلاُ: \(\mu (7)=1\) لأنّ العدد 7 مساوٍ تماماً لل7، و \(\mu(7,000,000)=0\) لأنّ العدد المُدخَل بعيد جدّاً عن الـ7، و \(\mu (10)=0.65\) لأنّها بعيدة نوعاً ما عن الـ7 ولكنّها أقرب من غيرها.. وهكذا..
تُدعى هذه الدّالة بدالّة العضوية للعدد الضبابي "تقريباً 7"، وندعو \(\mu (x)\) بدرجة عضوية (درجة انتماء) العدد \(x\) إلى المجموعة الضبابية "تقريباً 7".. وإذا حاولنا رسم الدالة \(\mu\) فسنحصل على شكل شبيه بما يلي:
في الحقيقة، تمّت دراسة الأعداد الضبابية على نطاق واسع، وكان هناك اهتمام خاصّ بالأعداد الضبابية التي يكون لدوال عضويتها شكل محدّد، فمثلاً، هناك العدد الضبابي المثلثي Triangular، العدد الضبابي شبه المنحرف Trapezoidal، العدد الضبابي ذو الشكل"s-shaped "S، والعدد الضبابي ذو شكل الجرس Gaussian..
نعود الآن إلى الادّعاء الأول، وهو أنّ المنطق الضبابي هو تعميم للمنطق التقليدي، فكذلك المجموعات الضبابية هي تعميم للمجموعات العادية.. إذاً يجب أن نستطيع التعامل مع المجموعات العادية كحالة خاصّة من المجموعات الضبابية، ولكن كيف ذلك؟
لنأخذ مثلاً مجموعة الأعداد المنتمية للفترة [5,8]، فهذه مجموعة عادية.. هل يمكننا تحديد دالة عضوية لها؟
الأمر سهلٌ جدّاً، فهذه المجموعة هي مجموعة ضبابية بحالةٍ خاصّة.. إذ يمكننا ببساطة وضع درجة عضوية كاملة (أي 1) للأعداد الموجودة داخل الفترة المعطاة، ولا نعطي أي درجة عضوية (أي 0) لبقية الأعداد.. بعبارة أخرى:
والتي عند رسمها ستعطي الشكل:
ماذا لو لم تكن المجموعة هي مجموعة متصلة؟ سنعاملها بنفس الطريقة تماماً..
وكمثال على ذلك لنأخذ المجموعة \(A=[1,2]\cup\{3\} \cup [4,5]\)، عندئذٍ يمكن التعبير عنها من خلال دالة العضوية:
والتي تعطي بدورها الشكل:
وهكذا، فإنّ من الممكن حقّاً التعبير عن المجموعات العادية كحالات خاصّة من المجموعات الضبابية، وبذلك تكون الضبابية فعلاً تعميماً للمنطق التقليدي..
في النهاية، نجد حقاً أنّ المنطق الضبابي هو أداة تساعدنا في التعبير عن الأعداد المشوّشة، وبشكل رياضي صحيح مئة بالمئة.. فالعدد الضبابي هو عبارة عن مجرّد دالّة، تمّ إنشاؤها تبعاً للفلسفة الضبابية المذكورة.. ولهذا قال زادة "المنطق الضبابي ليس ضبابياً"..
الضبابية ثورةٌ في عالم الرياضيات التطبيقية بدليل العدد الهائل من الأبحاث النظرية والتطبيقية المتعلقة والمعتمدة على المنطق الضبابي والمجموعات الضبابية، ولكنْ مثلها مثل كلّ جديد، واجهتْ في بدايتها رفضاً من المجتمع العلمي، ولكنّها ستسود قريباً، وربّما ستدخل في مناهج المدارس خلال سنوات..
قد يخطر في بال أحدهم: يبدو لي أنّ الأمر يشبه الاحتمال والعشوائية! ألا تعبّر الأرقام بين الصفر والواحد عن احتمال أن يكون العدد قريباً من العدد 7 في المثال المعطى؟
ما هو رأيك؟ شاركنا في التعليقات، وتابعنا كي تعرف أكثر عن أسباب خلط الناس بين الضبابية “Fuzziness” والعشوائية “Randomness” في المقال القادم. ما هي أوجه الشبه، وما الفروقات بينهما؟
((للنسخة الإنكليزية اضغط على زر "English" أسفل المقال))
مروة تفاحة – Marwa Tuffaha
المصادر:
1- Zadeh, L.A., 1965. Fuzzy sets. Information and control, 8(3), pp.338-353.
2- Zadeh, L.A., 2008. Is there a need for fuzzy logic?. Information sciences, 178(13), pp.2751-2779.
التعليقات
معلومات رائعة مروة وجديدة
رائع جدا
الشرح واضح وسلس